top of page

 

مختارات من المجموعة الشعرية "ليل ثقيل على الليل"

               ذهبْنا للْغِيابِ

 

ذهبْنا لنَغيبَ ..

النّافِذةُ  المَنسيّةُ على الجدارِ

كسماءٍ مُتّسخةٍ مُنذُ قُرونٍ

سرّبَتْ لنا ما استطاعَتْ مِنْ خُيوطِ

الصّباحِ بعد أن ذابَ الضّوءُ في الظُّلمةِ

وصارَتِ الأصواتُ غائمةً كأعْيُنِنا

ذهبْنا للرّحيلِ بأرجُلِنا

فوجدْنا الرّملَ يَفتَحُ فمَهُ لأحلامِنا

ولم تكنْ كبيرةً أو عاليةً

بل كانت هدأةً للخوفِ منَ    

الزِّحامِ الذي اسْتغرقـَنا

في حَوضِهِ؛

خرجْنا منَ الحَوضِ   إلى

الصّحراءِ العاريةِ كَنَوايانا

لِنتذوّقَ مُلوحةَ الحُبِّ

ونَبْتكِرَ منْ يوميّاتِنا كتاباً لنا.

قالوا هذا بيتٌ لحِكايتِكُمْ

ودخلْنا حَوْشَنا

ألقيْنا في كُلِّ زاويةٍ صلاةً

وألْقَمْنا الكائناتِ لحْمَ الآياتِ

لتَدَعَنا نُشاركُها الأرضَ

وأَوَيْنا إلى أنفُسِـنا

ها قد وجدْنا لعِشقِنا سَقْفاً     

وسَجّادةً

سنأكُلُ القُبُلاتِ ونَلْتحِفُ

بعَرَقِ أجسادِنا لِننامَ

ويمكنُنا أن لا ننامَ لِتبقَى

أنفاسُنا مفتوحةَ العينيْنِ ،

قابِضةً على اليَقَظَةِ كطَوفٍ

يُديرُها في الماءِ كيفما يشاءُ

لنْ نَدعَ أعيُنَنا تخونُنا بالفِرارِ

إلى النُّعاسِ

سنَتَشبَّثُ بالموجِ ونَجذِبُ معَنا

 طَوفَنا لِيَلْتَهِمَنا البحرُ

فيُبلِّلَ اللهُ أرواحَنا بالموتِ

ونَذهبَ معاً إلى قيامتِهِ.....

 

ذهبْنا لنَغيبَ

وأَخذَنَا الهَذَيانُ إلى ظهيرتِهِ

ليُحْرِقَ آمالَنا كما تُحرِقُ الشمسُ

شفاهَنا

أظّنُّنا الْتَفتْنا

أو أبطأْنا

أظنُّ الحَيْرةَ مسحَتْ خُطُواتِنا

لتكيدَ لقُلوبِنا أو تعْبثَ ببراءَتِنا

أظنُّها ضيّعَتْ دُروبَنا

ولمّا حان لنا أنْ نعودَ

بحثْنا عنِ الطّريقِ الذي ألْقى بِنا

إلى هنـاكَ

وهنـاكَ

تعلّمْنا أنْ لا شيءَ لنا

ولا حتّى أحدُنا للآخَرْ.


 

             أَمُدُّ يدَيَّ ولا أقبِضُ على شيْء

 

صارَ ليَ بيتٌ أصْغرُ

غرفةٌ تحترِسُ منَ الفُصولِ

ومَوقِدٌ أسهَرُ على جمرِهِ لئَلا

يجْرَحَهُ الرّمادُ

لَديَّ طاولةٌ تنتظرُ أن أجلِسَ إليْها

وكُوبٌ مُكتفٍ بيْ

النّبتةُ الوحيدةُ تُسنِدُ

غُصنَها للنّافذةِ وتُحاصِرُها الزّاويةُ

لكنّها تُلقي بنفسِها لِلاتّجاهاتِ

مُسلِمةً للأقدار نفسَها التي

تَحملُنيْ إلى ضِفـافِها

لا أَرْفُفٌ لتَستريحَ عليها الكتُبُ

ولا حتى مِخَدّةٌ لرأسيْ

اليدُ الّتي كُنْتُ أَتَوسَّدُها

أَخذَها النَّسرُ معَهُ إلى الجبالِ

المُحْتميةِ بالأعاليْ

لَرُبما بنـَتْ له عُشّاً جديداً

أو أعدَّتْ له شايَ المساءِ

ولكنّ هذا لم يَعُدْ يُوجِعُني

هذا جيِّدٌ: قال مُعلّمي

وأَخذَنيْ منْ يدِيْ لِيُريَني

وَهْجَ الصّباحِ الذي تمتَمَ بينَ

أقدامِنا ونحنُ ندوسُ بقايا اللّيلِ

صارَ ليْ نهرٌ قريبٌ

أُلقيْ لهُ بأحلاميْ فيَحمِلُها

بين ذِراعَيْهِ ويَتَهادى حاملاً

إيّاها إلى المدى

فأَظُنُّهُ يأخُذُها إلى اللهِ

وأضحكُ كالأطفالِ

قال لي مُعلّمي: هذا جيّدٌ

أنتِ تَقترِبينَ من لذّةِ النِّسيانِ

وعلّمني أنْ أمشُط َ الهواءَ بأصابِعيْ

وأُمسكَ الماءَ كَكـُرةٍ دونَ أنْ

ينْهمِرَ مِن بينِ كفّيَّ

 

صارَ لي أُغنيةٌ أُديرُها

حينَ يَهْطُلُ مطرُ الذِّكرياتِ

فتَدْعَكُ النّدمَ من فوقِ قلبي

وتمنَحُني بياضَ نشيدِها

وحين تَنْهَبُني الأفكارُ

تـُخفِضُ هديلَها لتَتأكّدَ أنّني

أُتابِعُ صَلواتِها معَها

أُتابِعُ الصّلواتِ ذاتَها

معَها

ومعَ خلاءِ الغُرفةِ

وكُنتُ أفعلُ كأُرْغُنٍ يائِسٍ يجِدُ

العزاءَ عِندما تَدعَسُ على     

أوْتارِهِ أيديْ الغُرباءِ

 

السّقْفُ يتَّسِعُ في بيتيَ الصّغيرِ

والصّمتُ يضَعُ شفتَيْهِ فوقَ جبْهتي

ليُقبِّلنيْ قبلَ أنْ أذهبَ للنّومِ

فأَدَّعيَ الاطْمئنانَ كما لو أنّني في

حُضْنِ الرّبِّ

 

سكتَ مُعلّمي وهوَ يَقبِضُ على قلبي بكلِماتِهِ

غَرَسَ بصرَهُ في وجْهي كمنْ يتَفحَّصُ

كأسَ ماءٍ

ارْتجفـَـتْ أجفانيْ ككُلّ مرّةٍ

وحارَتْ مُقْلتايَ

لكنّ وَجْنتَيَّ لم تحْترِقا

بمِلحِ البُكاءِ كما كنتُ أفعلُ

 

قال مُعلّمي

هذا جيّد

ومضى دونَ أن يَلتفِتَ لحَيْرتي

مضى جادّاً في سَيرِهِ

ذاب في الأُفُقِ كالضّوءِ

الذي يرتَفِعُ منَ الجسدِ حينَ

تخرُجُ الرُّوحْ.

               الصّباحُ يَبدأُ بلَونِ الغُبارِ

 

في هذهِ المدينةِ

الأيّامُ تَتَطوَّحُ في الأَزِقّةِ   

مثلَ الجِراءِ المُتعبةِ،

الغُبارُ يملأُ أفْواهَنا،

والشّمسُ لم تَعُدْ تُرى

كما يجبُ لها أنْ تفعلَ..

نحنُ أحياءٌ..

أظنُّنا نسيرُ في الأيّامِ

ونكتُبُ لنَتَأكّدَ أنَّنا

هُناكَ قُبالةَ الشّمسِ

التي لم تَعُدْ تُرى..

الصّباحُ يَلْمَسُنا بضَوئِهِ

كمُسافرٍ يَنظُرُ إلى العالَمِ منْ

نافذةِ مَقْصورتِهِ

إنّهُ هناكَ في الأعلى

ونحنُ هُنا

بالْكادِ يُمكِنُهُ أن يرانا.

 

                 كَرزُ الأيامِ الأسْودُ

 

وَالآنَ أَيُمكِنُنيْ أنْ أَذهبَ ؟

أَحمِلُ سلـَّتيْ منْ

كَرَزِ الأيامِ الأَسْودِ

وتُوتِ الفجرِ الدَّاكِنِ ؟

أَأَذْهبُ بِهذه الباقةِ مِنَ الآلامِ التي

مَنحـَتْنيْ إيّاها السَنَواتُ مُدَّعِيةً أنّها

ستُعينُنيْ لأكونَ رُوحاً طَيِّبةً

فلا أَجرَحُ الهواءَ

 ولا أَخدِشُ شُعورَ الكائِناتِ؟

هلْ صارتْ أَصابِعيْ خَبيرةً بمَواضِعِها

على الجُدْرانِ حينَ أَسيرُ مُغْمَضةَ العينَينِ

أَيُمْكنُنيْ تَعَلُّمُ فَتْحِ خزائنِ الحِكْمةِ

ومُناداتُكَ مِنَ الغيابِ؟

أوْ الاخْتِفاءُ في وَمْضةِ نجمةِ الرّاعيْ

وَالاحْتِراقُ بِرمادِها؟

وهذا المَساءُ الذي هُناكَ

ألم يَترُكْ شيئاً على الأشجارِ ليْ

هل أضَعتُ حاسّةَ المَعرفةِ

أم سرقوا مِنّيْ مَفاتيحَ الليلِ

أم أنّ شيئاً انْتثرَ في الهَواءِ

قبلَ أنْ أَتَحصَّنَ مِنْ سِحرِهِ

هل بَقِيَتْ خُطُواتيْ أكثرَ

ممّا ينْبغيْ على الرّملِ

فتَأخّرَتِ العاصِفةُ

 وأفسدَ الصّباحُ الْجُزءَ المُتبقِّيَ

مِنَ النّوايا؟

ماذا حدَثَ حينَ غَفَوْتُ قبلَ أنْ أذهبَ

إلى المَرْفأ؟

قبل أنْ أَحمِلَ سلـّتيْ منْ

كَرَزِ الأيّامِ الدّاكِنِ

وأَبوحَ للهِ أنّنيْ أُريدُ أنْ أذهَبَ؟

أينَ وضعَتْنيْ الْمُفْتَرَقاتُ؟

ماذا سقَطَ أيضاً في مُنتصَفِ

المسافةِ غَيرُ كلماتِ القصائِدِ

غيرُ الحُبِّ مِنْ جَوفِ القلبِ

غيرُ النّهارِ مِنَ الليلِ

غيرُكَ أنتَ وأنا؟.

             حيثُ تركْناهُ البارِحةَ

الهواءُ واقفٌ حيثُ تركْناهُ الْبارِحةَ

والأرضُ فارغةٌ منَ الأحْلامِ

التي بحثْنا عنها لِتُبقِيَنا على قَيدِ الحياةِ .

الكائِناتُ جاءَتْ وغسلَتِ المدينةَ بِعِنايةٍ

وأخذَتْ تفاصيلَنا معَها .

كانتِ الطُّرُقاتُ تحمِلُنا فوقَ أكْتافِها

وكُنّا نحمِلُ أفكارَنا كأجِنَّةٍ لا زال

أمامَها وقتٌ لتَصعَدَ الأشجارَ

ووقتٌ لتُصبحَ أوطاناً جديدةً لأرواحِنا ؛؛

لكنّهم جاءوا وأخذوا منَ الجدّاتِ

حكاياتِهنَّ

ومنّا ضوءَ ابتساماتِنا

وأعطَوْنا النَّردَ نتَبارى عليهِ .

قد يأتيْ دَورٌ لنا

وقد لا يأتيْ

وحينَ لا يأتيْ فلا بَأسَ

فلِكُلٍّ منّا رغيفٌ في الأَزَلِ

ولَسوفَ تكونُ الأزْمِنةُ سخِيّةً

ستُعلِمُنا دُروسَنا

وأولُها :

أنْ نفتَحَ أفواهَنا دُونَ أنْ نتكلَّمَ

وأنْ نقفِزَ إلى بِئْرِنا العميقةِ

وننْتَظِرَ حتى يكلّمَنا طائرُ الحِكْمةِ

وتحُطَّ على أيديْنا نجمةُ اللهِ

سنُكلِّمُ الرّمْلَ قبلَ أن ندوسَ عليهِ

وسيرُدُّ على أفكارِنا نملُ سُليمانَ

ويقْتادُنا إلى المستقبلِ

قالوا اخْفِضوا أجْفانَكُمْ لِتأتيَكُمُ المَعرِفةُ

وأغْمضْنا أَعْيُنَنا لِنذْهبَ

لِيكونَ لَنا مكانٌ في قَلبِ الرَّبِّ

 

لكِنّنا حينَ صِرْنا هُناكَ

وقفْنا على تَلّةٍ وَحدَنا

تلّةٍ تَهبِطُ إليها أقْدامُنا الحافِيةُ

وكان العالَمُ يَسيرُ بأحْذِيَتِنا الجديدةِ

وحينَ رفعْنا أكْتافَنا لَنسْألَ

قالوا ستَعْتادونَ على الحُرِّيّةْ.

 

سيَأْتيكمُ السَّلامُ حيثُ تَكونونَ

وسَيُقبِّلُ السيِّدُ أيديَكُمْ لأنَّكُمْ أطْفالُهُ

قلْنا هيه هيه سيُقبِّلُ السيّدُ أيديَنا لأننا أطْفالُهُ!

هيه هيه نحنُ أيضاً أطْفالُهُ ؟!

وذهبْنا لِننامَ مُطْمئِنّينّ أنَّ الهواءَ واقِفٌ

حيثُ تركناهُ الْبارِحةَ

والأرضَ

تَفتحُ ذِراعَيْها لِتأخُذَ

أحْلامَنا.

 

           شتاءاتٌ تغرِسُ دبابيسَها في قُلوبِنا

 

         الشّتاءُ الأوّلُ

يُغرِرُ بيَ النومُ

فتُساوِرُهُ نفسُه أن يرحلَ

مُتّكِئاً على أطْرافِ أصابِعهِ

يدفعُ الصّمتَ في الحُجُراتِ ،

ويوصِدُ البابَ،

تاركاً للهجْرِ ما شاءَ منَ الدُّهورِ

لبناءِ أعشاشِهِ في شجَرةِ القلبِ

تمنحُهُ الظُّلمةُ شالَها

وأقدامَها

وتشُقُّ له المحيطَ كعصى موسى لِيعبُرَ

كان ذاهبا ً إلى السَفـَر ِ

منذُ متى وهو ذاهبٌ إلى السَفـَرِ؟

أرفعُ أصابعَ يدَيَّ

أنتهي منَ الدّزّينةِ الأولى

والثانيةِ

و

...

 

لم يعُدْ يُطيقنيْ العدُّ؛

الأيامُ بلا أسماءٍ،

والزّمنُ يحتالُ،

العتَبُ أرعاهُ بينَ أضْلُعيْ

لِعُقودٍ أنسى متى بدأَتْ..

وكم عليَّ الإبقاءُ على عادة سَرْدِ

أجْزائِها لتنشيطِ ذاكرتيْ

وكيف سأُرتِّبُ ما يسقُطُ منها

لتَكْتملَ القصّةُ،،،

السّأَمُ شقيقُ الوَحْدةِ

والوَحدةُ تـُطيلُ تنّورتَها

كُلَّ يومٍ شِبراً ..

تَضيقُ الأوهامُ ذَرعاً بي

فتَذْرعُ دمي مِثلَ نملٍ جائعٍ

ثَمّةَ حفيفٌ يَقترِبُ

تَتحرّكُ أقدامٌ على الدّرجِ

تختلِطُ على سمعيْ وَقْعُ الخُطُواتِ....

 

بعدَ الشّتاءِ الأولِ

تُصبحُ أيّةُ حرَكةٍ على الدّرجِ

ذريعةً لأنْ تقفِزَ الرّوحُ من مكانها

كطائرٍ يسمعُ صوتَ الماءِ

بعد أن أيْبسَ الظّمأُ لسانَهُ.

         الشّتاءُ الثاني

القلبُ يُشيحُ وجهَهُ عنِ الصّباحِ

هاوياً في صُندوقِهِ

مُدَّعِياً أنّهُ ذاهبٌ إلى النّومِ

وقبلَ أن يمكنَنيْ مجاراتُهُ بالأسئلةِ

يخفِضُ رأسَهُ في بحَيرتِهِ

كغَوّاصٍ حانتْ ساعةُ افتراقِهِ عنِ اليابسةِ

أنتظرُ

إذْ لا يَسعُنيْ

سوى الانتظارِ

أنتظرُ

فتَرتفِعُ فُقاعاتٌ في الهواءِ

وتتَشكّلُ دائِرةٌ

تَسقُطُ في دائرةٍ

تسقُطُ في أُخرى

أنتظرُ

فيَصْعَدُ البُخارُ نحْوَ السماءِ

وتهتزُّ أجْراسٌ بعيدةٌ

أطْيافٌ تجولُ بين طيّاتِ الغيْماتِ

المتدثِّرةِ ببُرْنُسِها المُوشَّى باحمرارِ الأُفُقِ

هيَ أيضاً ترتقِبُ أنْ يأتيَها

ولو صوتٌ

 

أنتظرُ

مُحْتمِية ً بانْقضاءِ النهارِ

وسُقوطِ العَتَمةِ فوقَ البُحَيرةِ

أنتظرُ

لأنّني اعْتدتُ أن

أنتظرَ.

       الشّتاءُ الثالثُ

 

قال لي مُعلّمي "جستين"

أَغمِضيْ العينينِ

وافرُشي للضَّوءِ مُتّكأً بينَ حاجبَيْكِ

وعندَما فعلْتُ

قال:

لقد رفعَ اللهُ الألمَ توّاً

فانهضيْ

وأَلقيْ منْ يدَيكِ

رملَ اليأْسِ

الرّيحُ جائعةٌ

دعيها تأكلُهُ وتذهبْ.

 

Heavy Night on the Night- Last Book-.jpg
bottom of page